البلوك تشين وحوكمة الشركات.. وتحقيق التوازن بين مصالح المديرين والمساهمين؟

نجحت تقنية البلوك تشين – Blockchain، على مدار السنوات الماضية، في إحداث ثورة جذرية بالعديد من المجالات والقطاعات. فلم تعد استخدامات هذه التقنية الثورية مقتصرة على العملات الرقمية والمعاملات المالية والبيانات الشخصية فقط، بل امتدت لتشمل العديد من المجالات الأخرى.

وكان من بين أكثر المجالات التي استطاعت تقنية البلوك تشين أن تحدث تأثيرًا ملموسًا به هو مجال إدارة الشركات وبالأخص حوكمتها. وسوف نقوم من خلال هذا المقال بتوضيح أثر تقنية البلوك تشين في تعزيز حوكمة الشركات.

ولكن قبل ذلك، دعونا أولًا نلقي نظرة سريعة على بعض المفاهيم الهامة، والتي ستساعدنا على فهم العلاقة بين البلوك تشين وحوكمة الشركات.

ما هي تقنية البلوك تشين؟

تقنية البلوك تشين – Blockchain أو ما يُعرف باللغة العربية باسم تقنية سلسلة الكتل، هي نوع من قواعد البيانات الضخمة، التي يتم عن طريقها تسجيل وتوثيق البيانات والمعاملات المختلفة.

وتختلف قاعدة بيانات البلوك تشين هذه عن قواعد البيانات التقليدية في الآلية التي يتم من خلالها تنظيم وتسجيل المعلومات التي تحتوي عليها. فعن طريق البلوك تشين، يتم جمع البيانات في مجموعات تُسمى بالكتل، ويكون لكل كتلة سعة تخزينية معينة، عندما تمتلئ يتم ربطها بالكتلة المملوءة مسبقًا؛ لتشكل سلسلة من البيانات، ومن هنا جاء اسم سلسلة الكتل.

وتُجرى عملية التحقق من هذه البيانات التي يتم تخزينها على هذه الكتل، عن طريق مستخدمين آخرين في نفس النظام. وبمجرد التحقق من هذه البيانات لا يمكن تعديلها بأي شكل من أشكال، حيث يتم إضافتها إلى سلسلة الكتل الدائمة الأخرى التي تم التحقق منها مسبقًا.

وتقوم هذه التقنية بشكل أساسي على مبدأ اللامركزية، حيث لا تتطلب عملية تسجيل البيانات وجود أي وسيط أو طرف ثالث. بمعنى آخر، يمكننا القول بأن البلوك تشين عبارة عن نظام دفتر أستاذ رقمي، يستخدم سجلًا مفتوحًا موزعًا؛ لتتبع المعاملات.

وبات يُنظر إلى هذه التقنية مؤخرًا باعتبارها تقنية ثورية، يمكن استخدامها لتوثيق أي نوع من المعاملات بالعالم كله، في سجل واحد موجود على الإنترنت.

ما المقصود بحوكمة الشركات؟

حوكمة الشركات هي عبارة عن مجموعة من القواعد والممارسات والعمليات التي يتم عن طريقها توجيه الشركة والسيطرة عليها. وتتضمن حوكمة الشركات بشكل أساسي تحقيق التوازن بين مصالح العديد من الأطراف، مثل المساهمين وكبار المديرين التنفيذيين والعملاء والموردين والممولين وغيرهم.

وبشكل عام، تستهدف القواعد الخاصة بالحوكمة التأكد من أن الشركة تُدار بطريقة تحقق أهدافها، من خلال ضمان ثقة أصحاب المصلحة في أن تلك الشركة مبنية على أسس جيدة.

وبما أن حوكمة الشركات توفر إطارًا لتحقيق أهداف الشركة، فإنها تشمل عمليًا كل مجال من مجالات الإدارة، بداية من خطط العمل والضوابط الداخلية وحتى قياس الأداء.

ما هي العلاقة بين البلوك تشين وحوكمة الشركات؟

هناك علاقة وثيقة بين تقنية البلوك تشين وحوكمة الشركات، حيث تمتلك هذه التقنية الواعدة القدرة على إحداث تأثير كبير على إدارة الشركات وحوكمتها. فهذه التقنية تتحدى الهياكل والنماذج المؤسسية الراسخة، ولديها القدرة على تسهيل القوانين والقواعد الخاصة بالشركات المختلفة.

وهناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها لتقنية سلسلة الكتل التأثير على حوكمة الشركات، وهو ما سيتم التطرق إليه بشكل تفصيلي في الجزء التالي من هذا المقال.

أثر البلوك تشين على حوكمة الشركات

يمكن لتقنية البلوك تشين المساهمة في تعزيز حوكمة الشركات من خلال التالي:

المنظمات المستقلة اللامركزية – DAOs

في حوكمة الشركات التقليدية، تتدفق السلطة والسيطرة من المساهمين إلى إدارة الشركة من خلال الهياكل الهرمية، مما يؤدي إلى ظهور العديد من المخاطر المتعلقة بالسلوك الانتهازي وعدم تناسق المعلومات.

بينما من خلال تقنية البلوك تشين، يمكن إنشاء منظمات مستقلة لامركزية – DAOs تعمل بدون هياكل هرمية. ويمكن لهذه المنظمات التي يقودها المجتمع والمدعومة من البلوك تشين ربط المبدعين والمستخدمين مباشرة.

وتتضمن عملية إنشاء المنظمات المستقلة اللامركزية تكوين مجتمع مؤسس، وتطوير العقود الذكية – Smart Contracts، وإنشاء الرموز المميزة، وتحديد شروط الحوكمة للتصويت على المقترحات المختلفة.

ونود التنبيه إلى أن المؤسسين غالبًا ما يلعبون دورًا حاسمًا في إنشاء المنظمة المستقلة اللامركزية، ويسيطرون في البداية على القرارات المختلفة، لحين إشراك حاملي الرموز المميزة تدريجيًا.

تسهيل إصدار الأوراق المالية وتداولها

في أنظمة الشركات التقليدية، غالبًا ما يتم الاعتماد على سلاسل حفظ معقدة، تقيد سيطرة المساهمين ومشاركتهم في إدارة الشركة. ولمواجهة هذه التحديات، تقدم تقنية البلوك تشين حلولًا محتملة تساهم في تعزيز الشفافية، وتخفيف المخاطر، من خلال التتبع المستمر للملكية.

وقد لوحظت مؤخرًا العديد من التطورات الإيجابية في التي طرأت على إصدار الأوراق المالية وتداولها وتسويتها على أساس البلوك تشين. فعلى سبيل المثال، وافقت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية – SEC، في شهر يناير من عام 2022، على تشغيل بورصة BSTX القائمة على تقنية سلسلة الكتل، مما يسمح بأوقات تسوية أسرع، وتسجيل جميع أنشطة التداول على بلوك تشين خاص.

تحسين تصويت المساهمين ومشاركتهم

في أنظمة الحوكمة التقليدية، عادة ما يتم الاعتماد على الوسطاء لتحديد هوية المساهمين، ونقل المعلومات، والتصويت على المقترحات المختلفة. فقد اعترف توجيه حقوق المساهمين – SRD II، الذي يحدد المتطلبات المتعلقة بممارسة حقوق المساهمين في الشركات المدرجة بالاتحاد الأوروبي، بوجود الكثير من أوجه القصور في أنظمة التصويت، واقترح استخدام تقنية البلوك تشين لحل هذه المشكلة.

فمن خلال هذه التقنية، يمكن توفير المزيد من الشفافية في تصويت المساهمين، مما يؤدي إلى تقليل الأخطاء، وخفض التكاليف، وتعزيز شرعية وجودة عملية التصويت، وتحقيق العدالة بين أصحاب المصلحة.

فمن خلال تحميل وثائق الجمعية العامة العادية على شبكة البلوك تشين، ومطابقة حقوق التصويت مع المساهمين من خلال عملية اعرف عميلك – KYC، يمكن للمساهمين الإدلاء بأصواتهم مباشرة. كما يمكن أيضًا للمساهمين بعد التصويت، التحقق وتأكيد إدراج أصواتهم في النتائج المسجلة والمخزنة على شبكة البلوك تشين.

إدراج أصحاب المصلحة

تمتلك تقنية البلوك تشين القدرة على تعزيز مشاركة أصحاب المصلحة في شؤون الشركات، وهو ما أمر مهم لضمان استدامة هذه الشركات. فمن خلال هذه التقنية، يمكن تكليف أصحاب المصلحة بأدوار استشارية أو حتى منحهم حقوقًا معينة في اتخاذ القرار، كما نرى في المنظمات المستقلة اللامركزية.

كما يمكن أيضًا تعزيز العلاقة بين مالكي الرموز والمستفيدين، مما يمكّن المستفيدين من المشاركة بنشاط في عملية صنع القرار، مع تزويد مالكي الرموز بوسائل شفافة للتصويت.

رؤية مستقبلية لحوكمة الشركات في ظل تقنية البلوك تشين

كما سبق وأن ذكرنا في مقالنا، تمتلك تقنية البلوك تشين قدرات هائلة وإمكانيات رائعة تمكنها من معالجة جميع المشكلات وأوجه القصور التي ظهرت في أنظمة حوكمة الشركات التقليدية. وفي ضوء ذلك، بدأت الكثير من الشركات الكبرى حول العالم في إجراء دراسات حول هذه التقنية الواعدة، وأبحاث حول كيفية البدء في استخدامها.

ووفقًا لدراسة السوق العالمية لعام 2017 والتي أجرتها شركة Juniper Research، تفكر 60% من الشركات الكبرى حول العالم في إعادة بناء أنظمة حوكمة تعتمد على تقنية البلوك تشين، خلال العشر سنوات المقبلة.

وفي ضوء ذلك، من المتوقع أن نرى تطورات إيجابية في إدارة هذه الشركات، من خلال تعزيز الشفافية، وتحسين أساليب المشاركة والتصويت، وتسهيل عمليات التداول.

الخلاصة

تتمتع تقنية البلوك تشين بالعديد من المزايا الرائعة، التي استطاعت من خلالها أن تترك بصماتها الإيجابية على الكثير من المجالات.

فقد استطاعت هذه التقنية، خلال فترة قصيرة، أن توسع دائرة استخداماتها، لتتحول من مجرد أداة كان يتم استخدامها كسجل للمعاملات الخاصة بالعملات الرقمية إلى وسيلة يتم الاعتماد عليها لوضع أنظمة حوكمة لكبرى الشركات في العالم.

وفي ضوء المزايا الكثيرة التي وفرتها للشركات وكذلك أيضًا الحلول العديدة التي قدمتها لمشكلات الإدارة، من المتوقع جدًا أن نشهد توسعًا في استخدام تقنية البلوك تشين من قبل غالبية المؤسسات على مستوى العالم، خلال المستقبل القريب.