الحج في الواقع الافتراضي.. هل يمكن أداء المناسك من المنزل؟

أيام قليلة باتت تفصلنا عن بدء موسم الحج، الذي يترقبه ملايين المسلمين حول العالم؛ لأداء المناسك في الأراضي المقدسة، أو حتى لمتابعتها عبر شاشات التليفزيون. ومع التطورات التكنولوجية المذهلة التي يشهدها العالم كل يوم، كثر الحديث خلال هذه الأيام عن ما يُسمى بالحج في الواقع الافتراضي.

 حيث بدأ الكثيرون يتساءلون عن إمكانية زيارة الأماكن المقدسة والمشاركة في أداء مناسك الحج عبر الميتافيرس – Metaverse. والحقيقة أن هذه التساؤلات أثارت حالة كبيرة للغاية من الجدل، وفتحت الباب لمناقشات حادة حول ما إذا كان يجوز أداء مناسك الحج في الواقع الافتراضي أم لا.

وفي ضوء ذلك، سوف نحاول من خلال هذا المقال الإجابة على كافة التساؤلات التي أثيرت حول هذا الموضوع.

العبادة في الميتافيرس.. كيف بدأت؟

دعونا أولًا نلقي نظرة سريعة على مفهوم الميتافيرس بشكل عام؛ وذلك لمعرفة كيف بدأت ظاهرة أداء الشعائر الدينية به. الميتافيرس هو باختصار شديد عبارة عن شبكة من العوالم الافتراضية ثلاثية الأبعاد، التي تقوم على الاتصال الاجتماعي بين المستخدمين.

حيث يمكن للمستخدمين من خلال الميتافيرس الالتقاء معًا في مساحات افتراضية مشتركة، وممارسة كافة الأنشطة التي يمارسونها في حياتهم الحقيقية، مثل العمل والتعلم والتسوق والتنزه وكذلك أيضًا أداء الشعائر الدينية.

فقد شهدنا، خلال السنوات القليلة الماضية، ظهور العديد من منصات الميتافيرس التي تتيح لمستخدميها من مختلف الديانات، زيارة الأماكن المقدسة حول العالم، وأداء الشعائر الدينية بها.

والحقيقة أن الأماكن المقدسة الإسلامية لم تكن في معزل عن كل ذلك، حيث حرصت المملكة العربية السعودية منذ اللحظة الأولى، على مواكبة كل هذه التطورات، من خلال إطلاق العديد من المبادرات والمنصات التي تسمح لملايين المسلمين حول العالم بالقيام بجولات افتراضية داخل البيت الحرام والمسجد النبوي وغيرها من الأماكن المقدسة الأخرى، وهو ما سيتم التطرق إليه بشكل تفصيلي في الجزء التالي من هذا المقال.

مبادرات سعودية لتسهيل العبادة في الميتافيرس

كما سبق وأن ذكرنا، حرصت المملكة العربية السعودية على إطلاق مجموعة كبيرة من المبادرات؛ لتسهيل أداء الشعائر الدينية بما فيها مناسك الحج، والتعرف عليها عبر الميتافيرس.

وفيما يلي نرصد أبرز هذه المبادرات:

التنقل بين المشاعر المقدسة عبر الواقع الافتراضي

في شهر أغسطس من عام 2017، أعلنت مؤسسة الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز “مسك الخيرية”، عن مبادرة تسمح بالتنقل بين المشاعر المقدسة، من خلال تقنية الواقع الافتراضي، التي تعمل على نقل المستخدمين عبر إطلالة بانورامية، يتم فيها دمج الخيال التقني بالواقع.

وتم وقتها السماح للمستخدمين من خلال هذه المبادرة، التنقل عبر قطار افتراضي يحاكي قطار المشاعر، وهو ما أتاح لهم القيام بجولات افتراضية في الكعبة المشرفة، وجبل عرفة، ومنى، والمشعر الحرام، ومسجد نمرة، والمسجد النبوي، وغيرها من الأماكن المقدسة الأخرى التي يقصدها جميع الحجاج.

لمس الحجر الأسود افتراضيًا

في ديسمبر من عام 2021، وبالتزامن مع جائحة كورونا، أعلنت سلطات إدارة المقدسات الإسلامية في المملكة، عن إطلاق مبادرة بعنوان: “الحجر الأسود الافتراضي”؛ لإتاحة لمس الحجر الأسود عبر تقنية الواقع الافتراضي.

وصرح الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، وقتها بأن الهدف من هذه المبادرة هو محاكاة الواقع الحقيقي، ورقمنة الكنور الدينية التي تمتلكها السعودية، وإيصالها للملايين حول العالم.

زيارة الحرم المكي افتراضيًا

أطلقت التأمينات الاجتماعية السعودية، تطبيقًا يسمح لمستخدميه بإجراء زيارات افتراضية للحرم المكي والكعبة المشرفة، بالصوت والصورة. ويتيح هذا التطبيق التجول بالحرم المكي من الداخل والخارج، وزيارة المشاعر المقدسة كمشعر عرفات ومنى والمزدلفة.

التجول الافتراضي في رحاب المسجد النبوي

أعلنت وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودية، في شهر مارس من عام 2022، عن تقديم تجربة التجول الافتراضي داخل المسجد النبوي، لزوار معرض “المصحف الشريف”، باستخدام نظارات الواقع الافتراضي.

وتشمل هذه التجربة التجول داخل جميع أركان المسجد النبوي، بداية من مدخل باب السلام، مرورًا بمسار باب جبريل والروضة الشريفة ومسار باب الرحمة، وحتى الساحات الخارجية.

منصة افتراضية للتعريف بمناسك الحج

في شهر يناير من العام الجاري، أطلقت جامعة الملك عبد العزيز السعودية بالتعاون مع المكتب الاستشاري للذكاء الاصطناعي، منصة افتراضية للتعريف بمناسك الحج، تعتمد على نظام محاكاة يستخدم تقنية الواقع الافتراضي.

وتصطحب هذه المنصة المستخدمين في رحلة افتراضية؛ لتعريفهم بمناسك الحج، خلال ثلاث دقائق فقط. كما تقوم أيضًا بتعريفهم بأهم المعالم والمقاصد التي تصادف أي حاج، مثل الكعبة المشرفة، وجل الرحمة بعرفات، وجسر الجمرات بمنى، وغيرها.

الحج في الواقع الافتراضي

بعد قيام المملكة العربية السعودية بإطلاق كل هذه المبادرات الافتراضية التي تسمح بأداء جميع الشعائر الدينية، أصبح من الممكن أداء كافة مناسك الحج، ولكن بشكل افتراضي.

فمن خلال هذه المنصات يمكنك الطواف حول الكعبة، الوقوف على جبل عرفات، والسعي بين الصفا والمروة، والذهاب إلى المزدلفة، وغيرها من المناسك الأخرى.

ولكن على الرغم من كل ذلك، إلا أن الحج في الواقع الافتراضي لا يغني أبدًا عن الفريضة الحقيقية؛ وذلك وفقًا لآراء وفتاوى علماء الدين، والتي سوف نقوم بسردها في الجزء التالي من هذا المقال.

مشروعية أداء مناسك الحج في الواقع الافتراضي

أثارت الشعائر الدينية في الواقع الافتراضي تساؤلات عديدة حول مشروعية أداء مناسك الحج في الميتافيرس، وهو ما دفع علماء الدين ببعض الدول الإسلامية إلى الرد على هذه التساؤلات، وحسم الجدل حول هذه المسألة. وفيما يلي نرصد أبرز الآراء الفقهية حول الحج في الواقع الافتراضي:

تعايش وليس شعائر

قال العالم الأزهري، الدكتور سامي العسالة، إن الميتافيرس قد يجعلنا نعيش الزيارة، لكنه لا يغني أبدًا عن الشعائر الدينية. وأضاف العسالة، في تصريحات صحفية، أنه لا مانع شرعًا من استخدام الواقع الافتراضي للقيام بجولات دينية كنوع من أنواع التعايش مع الأماكن المقدسة، لكنه لا يغني عن الحج؛ وذلك لأن هناك شروط معينة للمناسك لابد من تحققها.

وأوضح أن هذه التجارب الافتراضية قد تكون ممتعة لمن لا يستطيع الذهاب إلى الحج، بالإضافة إلى أنها وسيلة جيدة للتدرب على أداء المناسك.

لابد وأن يكون الجسد هناك

اعتبرت عضو هيئة التدريس بجامعة 29 أذار بإسطنبول، الدكتورة خديجة بوينو كالن، أن الحج الافتراضي هو مجرد فرصة وليس عبادة. وأوضحت بوينو كالن، في تصريحات صحفية، أن أداء مناسك الحج من طواف والوقوف على جبل عرفات وغيرها لابد وأن يكون بحضور الجسد.

لا ثواب في الافتراضية

من جانبه، قال العالم بالأزهر الشريف، الدكتور السيد سليمان، إن تجارب الواقع الافتراضي لا يترتب عليها أي أحكام شرعية أو علمية أو قانونية. وأضاف سليمان، في تصريحات صحفية، أنه لا ثواب في الافتراضية، مشيرًا إلى أن جولات الميتافيرس هذه لا تغني أبدًا عن الحج الحقيقي. وشبه هذه الجولات الافتراضية بألعاب وبرامج الكارتون، ولكنها بطريقة مبتكرة.

ليس صحيحًا من الناحية الشرعية

قال المحاضر في كلية أصول الدين بجامعة إسطنبول، الدكتور عبد الله طرابزون، إن الحج في الواقع الافتراضي ليس صحيحًا من الناحية الشرعية. وأوضح طرابزون، في تصريحات صحفية، أنه إذا كان يجوز الحج في الميتافيرس، فمن الممكن وأن يخرج أي شخص ليقول أنه يجوز الصلاة أيضًا داخل هذه العوالم الافتراضية، مشيرًا إلى أن كل ذلك غير مقبول من الناحية الشرعية.

لا يُسقط على المسلم فريضة الحج

من ناحيته، قال العالم الأزهري، الشيخ أحمد تركي، إن زيارة الأماكن المقدسة عبر الواقع الافتراضي أمر جيد، ولكن على سبيل الرؤية والتدريب فقط.

وأضاف تركي، في تصريحات صحفية، أنه لا يوجد في الدين الإسلامي ثواب على الافتراض، وبالتالي فإن أداء مناسك الحج في الواقع الافتراضي لا يُسقط على المسلم الفريضة.

وأشار إلى أن التعامل مع الجولات الافتراضية داخل الحرم المكي باعتبارها أداء للفريضة ما هو إلا نوع من الهزل، على حد وصفه.

الخلاصة

في الختام، يمكننا القول بأن الشعائر الدينية في الواقع الافتراضي تعد بمثابة فرصة رائعة للتعايش، ولكنها لا تغني عن الشعائر الحقيقية من الناحية الشرعية. لذلك، إذا كنت ترغب في خوض تجربة الحج ولا تستطيع في الوقت الراهن؛ لأسباب مادية أو صحية أو غيرها، فيمكنك التعايش مع المناسك عبر الواقع الافتراضي.

ولكن يجب أن تضع في اعتبارك بأن خوض هذه التجربة لن يسقط عنك فريضة الحج؛ وذلك وفقًا لغالبية الآراء والفتاوى الدينية التي صدرت في هذا الشأن، والتي تم التطرق إليها بشكل تفصيلي في هذا المقال.